بسم الله الرحمن الرحيم
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ }القصص8
هذا النص القرآني الكريم جاء في بدايات سورة القصص وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وثمانون(88) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستعراضها قصة فرعون مصر مع كل من نبي الله موسي وأخيه نبي الله هارون, وما اتصل بذلك من خبر مستغل في الأرض من مثل قارون الذي كان من قوم موسي فبغي عليهم. ويدور المحور الرئيسي لسورة القصص حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة القصص, وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات العلمية والتاريخية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التاريخي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
من الإعجاز التاريخي في قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ
... إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين:
من الدقة المطلقة في القرآن الكريم وصف حاكم مصر في زمن نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ بوصف الملك, ونعته في زمن نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ بلقب الفرعون.
كذلك من الدقة المطلقة في كتاب الله ذكر مهندس البناء في زمن فرعون موسي باسم هامان. وقد دأب عدد من غلاة المستشرقين علي استخدام هذه الإشارات ضد القرآن الكريم بدلا من استخدامها لتأكيد الدقة المطلقة فيه, ولمناقشة ذلك أورد ما يلي:
أولا: الإعجاز التاريخي في نعت حاكم مصر في زمن نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ بلقب الملك, ونعته في زمن موسي ـ عليه السلام ـ بلقب الفرعون:
يعجب قارئ القرآن الكريم من وصف حاكم مصر في زمن نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ بلقب الملك الذي جاء في خمسة مواضع من سورة يوسف, بينما جاء وصفه في زمن موسي ـ عليه السلام ـ بلقب فرعون مصر أو الفرعون, وقد أورد القرآن الكريم لقب فرعون أربعا وسبعين(74) مرة في عرض قصة نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ
والسبب في ذلك أن نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ عاش في مصر أيام حكم الهكسوس( أي: الملوك الرعاة), وذلك في الفترة من(1730 ق.م) إلي(1580 ق.م), وكان حكام الهكسوس يلقبون بالملوك وليس بالفراعنة, بينما عاش نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ في زمن رمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة, وكان معروفا باسم فرعون الاضطهاد, أو فرعون التسخير, وحكم مصر في الفترة من(1301 ق.م) إلي(1234 ق.م)
ومات ونبي الله موسي في مدين, وخلفه من بعده علي عرش مصر ولده الثالث عشر منفتاح( أو منفتا) المعروف باسم فرعون الخروج, الذي حكم مصر في الفترة من(1234 ق.م) إلي(1224 ق.م), ومات غارقا في أثناء مطاردته لنبي الله موسي ـ عليه السلام ـ كما أخبر بذلك القرآن الكريم. وفي هذه الفترة كان يطلق علي حكام مصر لقب الفراعنة.
ومن هنا جاء ذكر حاكم مصر في زمن نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ بهذا اللقب في الآية الكريمة التي نحن بصددها وفي كل الآيات الأربع والسبعين التي ذكر فيها القرآن الكريم حاكم مصر في زمن نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ.
أما نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ, فقد عاش في حدود الفترة من(1730 ق.م) إلي(1580 ق.م), وكان حاكم مصر ملكا من العمالقة يعرف باسم الريان بن الوليد, كما ذكره مؤرخو العرب, ووجد اسمه منقوشا علي بعض الآثار المصرية القديمة( انظر مؤتمر تفسير سورة يوسف للشيخ عبدالله العلمي), وكان ذلك في الأسرة الخامسة عشرة, أو السادسة عشرة لدولة الهكسوس الرعاة في مصر, وكانت السلالة السابقة عليها في حكم مصر, وهي الأسرة الرابعة عشرة من الفراعنة المصريين, الذين حكموا في وادي النيل سنة(2000 ق.م), بينما كانت السلالة الرعوية المعروفة باسم شاسو أو الهكسوس,( أي: البدو الرعاة), يتنقلون في شرقي مصر علي حدود البادية فيما يعرف اليوم باسم محافظة الشرقية( أرض جاسان في الكتب القديمة)
وكانوا يتكلمون لغة سامية متفرعة عن اللغة العربية, وكانت قريبة جدا منها, وكان الهكسوس يترقبون ضعف الفراعنة ليغزوهم, كما كان الفراعنة حريصين علي مسالمتهم والاستعانة بهم في حروبهم لشجاعتهم, وشدتهم, وجلدهم, وقوة أبدانهم, شأن البدو في كل العصور, وظل الصراع بين ملوك الرعاة وفراعنة مصر حتي سنحت الفرصة لهؤلاء الرعاة بالانتصار عليهم, فاستولوا علي دلتا مصر وحكموها باسم ملوك الهكسوس في أثناء فترة الاضطرابات والفتن في أواخر عهد الأسرة الرابعة عشرة, واستعمروا الوجه البحري كله وبعض أجزاء من صعيد مصر, واستولوا علي مدينة( منف أو منفيس), وولوا علي الأراضي التي احتلوها ملكا من بينهم.
وانحسر حكم الفراعنة إلي جنوب مصر, الذي كانت عاصمته مدينة طيبة( الأقصر), وحكم الهكسوس أغلب شمال مصر, ودامت سيطرتهم عليه لنحو خمسة قرون, حتي قام الفراعنة بإسقاط ملكهم في أوائل القرن السادس عشر قبل الميلاد, وعاد الفراعنة لحكم كل من شمال وجنوب مصر من جديد, موحدين أرض مصر تحت حكمهم مرة ثانية.
وفي فترة دخول نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ إلي مصر كانت مملكة الهكسوس في دور انحسارها الذي تقلصت مساحتها فيه إلي مثلث تألفت رؤوسه من كل من مدن منيا القمح, وبوبسطة( القريبة من مدينة الزقازيق), وبلدة صان الحجر.
ولم يجد نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ صعوبة في التحدث مع الهكسوس الذين كانوا يتكلمون لغة سامية قريبة من لغته, أما نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ فقد عاش في حدود الفترة الزمنية(1264 ق.م,1184 ق.م) وهي الفترة التي انتصر فيها الفراعنة علي الهكسوس وطردوهم إلي خارج البلاد. ومن هنا تأتي ومضة الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة التي نحن بصددها في قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ:...
إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين
وفي وصف حاكم مصر في زمن نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ في أربع وسبعين آية قرآنية كريمة, بوصف فرعون, بينما نعتته آيات القرآن الكريم في زمن نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ بنعت الملك في خمسة مواضع مختلفة من سورة يوسف, وذلك لأن يوسف ـ عليه السلام ـ لم يعمل لدي أحد من فراعنة مصر, الذين كان ملكهم في زمن وجوده بمصر قد انحسر إلي جنوب البلاد, وكانت عاصمتهم طيبة( الأقصر), وكانت لغتهم الهيروغليفية أي المصرية القديمة التي لم يكن يوسف ـ عليه السلام ـ يعرفها. وهذه اللمحة المعجزة ـ علي بساطتها ـ هي من جملة البراهين علي أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية) علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا ليبقي القرآن الكريم, شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام رب العالمين, وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة.
وهذا الوصف الدقيق لحاكم مصر في زمن نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ بوصف( الملك) هو من الأدلة الناطقة علي الدقة المطلقة لكل حرف, وكلمة, وآية أوردها القرآن الكريم, ولكل قاعدة عقدية, أو أمر تعبدي, أو دستور أخلاقي, أو تشريع سلوكي, أو خبر تاريخي, أو إشارة علمية, أو خطاب إلي النفس الإنسانية أو غير ذلك من القضايا المحكمة التي جاءت في ثنايا الآيات المتعلقة بركائز الدين الأساسية من العقيدة, والعبادة, والأخلاق, والمعاملات في هذا الكتاب العزيز.
ومن الثابت أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بعث خاتما للأنبياء والمرسلين في سنة(610 م), أي بعد أكثر من(2200 سنة) من وفاة أخيه يوسف بن يعقوب ـ عليهما السلام ـ, وبعد أكثر من(1700 سنة) من وفاة أخيه موسي بن عمران ـ عليه السلام ـ, فمن غير الله الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ يمكن أن يكون قد أخبره بتفاصيل قصة كل من نبي الله يوسف ونبي الله موسي ـ عليهما السلام ـ بهذه الدقة والشمول, والإيجاز المعجز دون ترك شيء من التفاصيل؟ وإن قيل إنه كان لليهود بعض الجيوب في الجزيرة العربية علي عهده ـ صلي الله عليه وسلم ـ فإن التاريخ يثبت أن غالبية هؤلاء اليهود كانوا من البدو الذين لم يكونوا علي قدر كاف من الثقافة الدينية أو الدنيوية, ولذلك جاءت الإشارة إلي حاكم مصر في زمن كل من يوسف وموسي ـ عليهما السلام ـ في العهد القديم جاءت كلها بوصف الفرعون.
ثانيا: الإعجاز العلمي والتاريخي في ذكر اسم( هامان):
لم يرد في العهد القديم ذكر لهذا الاسم( هامان) كأحد المستشارين في أمور البناء لفرعون مصر في زمن نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ, وانطلاقا من ذلك أخذ عدد من غلاة المستشرقين في التهجم علي القرآن الكريم ـ
وقد ادعي المهاجمون للقرآن الكريم بأن الاسم( هامان) لم يذكره أي من مؤرخي الحضارة اليونانية القديمة, ولم يرد في أي نص تاريخي قديم عن مصرنا الحبيبة, وإن ذكروا وروده في أحد أسفار العهد القديم يعرف باسم( سفر إستيرEsther), وجاء في هذا السفر أن ملك بابل( أحشويروش) أو(Xerxes) استوزر رجلا باسم( هامان), وأن هذا الوزير كان يبغض اليهود الذين سبق أن أسرهم( نبوخذ نصر) ملك بابل السابق, لكن إحدي محظيات الملك كانت يهودية باسم( إستير) استخدمت فتنة الملك بها في الإيقاع بهذا الوزير حتي تم إعدامه شنقا. وانطلاقامن هذه الأسطورة اندفع عدد من غلاة المستشرقين إلي الادعاء الباطل بأن( هامان) لم يكن في مصر علي عهد فرعون موسي, ولكنه كان في بابل علي عهد الملك( أحشويروش) أو(Xerxes) بعد نحو ألفي سنة من وفاة نبي الله موسي ـ عليه السلام ومع التسليم بأنه لا يوجد ما يمنع تكرار أسماء الأشخاص في عهود مختلفة, إلا أن قصة إستير تبقي قصة مختلقة في التراث اليهودي, انطلاقا من عقيدة تميز العرق اليهودي, حيث لا يوجد أي سند تاريخي لتلك القصة علي الإطلاق.
ثم جاء الطبيب الفرنسي( موريس بوكاي) ليوضح الأمر لبني جلدته في كتابه المعنون موسي وفرعون وفيه ما ترجمته: لقد قمت بكتابة الاسم( هامان) باللغة الهيروغليفية وعرضته علي أحد المختصين في تاريخ مصر القديمة. ولكيلا أدعه تحت أي تأثير لم أذكر له أنها وردت في القرآن, بل قلت له إنها وردت في وثيقة عربية قديمة يرجع تاريخها إلي القرن السابع الميلادي. فقال لي المختص: يستحيل أن ترد هذه الكلمة في أي وثيقة عربية في القرن السابع, لأن رموز الكتابة باللغة الهيروغليفية لم تكن قد حلت آنذاك. ويضيف الدكتور بوكاي قوله: ولكي أتحقق من هذا الأمر أوصاني بمراجعة قاموس يحمل العنوان التالي: قاموس أسماء الأشخاص في الإمبراطورية الجديدة لمؤلفه( اللامند رانك). نظرت إلي القاموس فوجدت أن هذا الاسم موجود فعلا ومكتوب باللغتين الهيروغليفية والألمانية. كذلك كانت هناك ترجمة لصاحب هذا الاسم بأنه رئيس عمال مقالع الحجر. وكان هذا الاسم أو اللقب يطلق آنذاك علي الرئيس الذي يتولي إدارة المشاريع الإنشائية الكبيرة. استنسخت هذه الصفحة من ذلك القاموس وذهبت إلي المختص الذي أوصاني بقراءته, ثم فتحت ترجمة القرآن بالألمانية وأريته اسم هامان فيه فاندهش ولم يستطع أن يقول شيئا. ويضيف الدكتور موريس بوكاي قوله:
لو جاء ذكر اسم( هامان فرعون) في أي كتاب قبل القرآن, أو لو جاء ذكره في العهد القديم لكان المعترضون علي حق, ولكن لما لم يرد هذا الاسم حتي نزول القرآن في أي نص آخر, وإن كان قد اكتشف بعد ذلك بقرون عديدة علي الأحجار الأثرية لمصر القديمة وبالخط الهيروغليفي. فإن ورود هذا الاسم في القرآن بهذا الشكل المذهل لا يمكن تفسيره إلا بأنه معجزة, وليس ثمة أي تعليل آخر. أجل, إن القرآن هو أعظم معجزة. ويضيف هذا العالم الفرنسي الجليل( بوكاي) قوله:
وكما سبق القول بأنه ما من مؤرخ أو كاتب أشار إلي شخص اسمه( هامان) كان مقربا من فرعون مصر في عهد موسي ـ عليه السلام ـ, ولم يكن أحد من الناس يعلم شيئا من تاريخ مصر القديم, لأن العلماء كانوا عاجزين عن قراءة الكتابات المصرية القديمة المكتوبة بالهيروغليفية, وكانت هذه اللغة قد اندثرت تدريجيا في مصر حتي انمحت تماما. وكان آخر نص مكتوب بهذه اللغة قد سجل في عام394 م, ولم يعد أحد يتكلم باللغة الهيروغليفية أو يعرف قراءتها.
واستمر هذا الوضع حتي عام1822 م عندما استطاع العالم الفرنسي فراجيان فرانسوا شامبليون فك رموز تلك اللغة باكتشاف نص مكتوب بها علي حجر رشيد(TheRosettaStone) مع ترجمة له إلي كل من اللغتين اليونانية القديمة والديموطيقية. وقد تم اكتشاف هذا الحجر من قبل ضابط فرنسي عام1799 م في أثناء الحملة الفرنسية علي مصر في قرية رشيد بمحافظة البحيرة. ووجد عليه نص يمجد فرعون مصر ويدون انتصاره وكان هذا النص مكتوبا بثلاث لغات هي: اللغة الهيروغليفية واللغة الديموطيقية( وهي اللغة العامية المصرية القديمة) واللغة الإغريقية.
وكان تاريخ الكتابة يعود إلي عام196 ق.م. وقد ساعد وجود هذه اللغات الثلاث علي فك رموز اللغة اليهروغليفية, فقد قام شامبليون بمضاهاة هذا النص بالنص الإغريقي وبنصوص هيروغليفية أخري حتي نجح في فك رموز اللغة الهيروغليفية, وذلك لأن النص اليوناني كان عبارة عن أربعة وخمسين سطرا, وكان سهل القراءة.
وهذا يدل علي أن هذه اللغات الثلاث كانت سائدة إبان حكم البطالسة الإغريق لمصر. وبعد حل رموز الكتابة اليهروغليفية علمنا من الكتابات الموجودة علي عدد من الأحجار الأثرية العائدة للتاريخ المصري القديم وجود شخص مقرب من فرعون مصر في عهد موسي ـ عليه السلام ـ كان مسئولا عن البناء اسمه( هامان). وهناك حجر من هذه الأحجار المصرية القديمة ورد فيه هذا الاسم موجود في متحف( هوف) في( فينا) عاصمة النمسا.
هذه شهادة عالم غربي محايد يشهد بأن القرآن الكريم هوأعظم معجزة في تاريخ البشرية كلها, انطلاقا من كلمة حق واحدة اتضحت له وهي اسم( هامان) مهندس بناء فرعون في عهد نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.